جاء في حكم وقصص الصين القديمة أن ملكاً أراد أن يكافئ أحد مواطنيه فقال له: امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيرا علي قدميك.. فرح الرجل و شرع يزرع الأرض مسرعاً ومهرولاً في جنون.. سار مسافة طويلة فتعب و فكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التي قطعها.. و لكنه غير رأيه و قرر مواصلة السير ليحصل علي المزيد.. سار مسافات أطول و أطول و فكر في أن يعود للملك مكتفياً بما وصل إليه.. لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل علي المزيد و المزيد.. ظل الرجل يسير و يسير ولم يعد أبداً.. فقد ضل طريقه وضاع في الحياة، و يقال إنه وقع صريعاً من جراء الإنهاك الشديد.. لم يمتلك شيئا ولم يشعر بالاكتفاء و السعادة لأنه لم يعرف حد الكفاية (القناعة).
النجاح الكافي صيحة أطلقها لوراناش و هوارد ستيفنسون.. يحذران فيها من النجاح الزائف المراوغ الذي يفترس عمر الإنسان فيظل متعطشا للمزيد دون أن يشعر بالارتواء.. من يستطيع أن يقول لا في الوقت المناسب و يقاوم الشهرة و الأضواء و الثروة و الجاه والسلطان؟
لا سقف للطموحات في هذه الدنيا.. فعليك أن تختار ما يكفيك منها ثم تقول نكتفي بهذا القدر.. ونواصل الإرسال بعد الفاصل.. بعد فاصل من التأمل يتم فيه إعادة ترتيب أولويات المخطط..
الطموح مصيدة.. تتصور إنك تصطاده.. فإذا بك أنت الصيد الثمين.. لا تصدق؟!.. إليك هذه القصة..
ذهب صديقان يصطادان الأسماك فاصطاد أحدهما سمكة كبيرة فوضعها في حقيبته ونهض لينصرف.. فسأله الآخر: إلي أين تذهب؟!.. فأجابه الصديق: إلي البيت لقد اصطدت سمكة كبيرة جداً تكفيني.. فرد الرجل: انتظر لتصطاد المزيد من الأسماك الكبيرة مثلي.. فسأله صديقه: ولماذا أفعل ذلك؟!.. فرد الرجل.. عندما تصطاد أكثر من سمكة يمكنك أن تبيعها.. فسأله صديقه: و لماذا أفعل هذا؟.. قال له كي تحصل علي المزيد من المال.. فسأله صديقه: و لماذا أفعل ذلك؟ فرد الرجل: يمكنك أن تدخره وتزيد من رصيدك في البنك.. فسأله: ولماذا أفعل ذلك؟ فرد الرجل: لكي تصبح ثريا.. فسأله الصديق: و ماذا سأفعل بالثراء؟! فرد الرجل تستطيع في يوم من الأيام عندما تكبر أن تستمتع بوقتك مع أولادك و زوجتك..
فقال له الصديق العاقل هذا هو بالضبط ما أفعله الآن ولا أريد تأجيله حتى أكبر و يضيع العمر.. رجل عاقل.. أليس كذلك!!
يقولون المستقبل من نصيب أصحاب الأسئلة الصعبة، و لكن الإنسان ـ كما يقول فنس بوسنت ـ أصبح في هذا العالم مثل النملة التي تركب على ظهر الفيل.. تتجه شرقا بينما هو يتجه غربا.. فيصبح من المستحيل أن تصل إلى ما تريد.. لماذا؟ لأن عقل الإنسان الواعي يفكر بألفين فقط من الخلايا، أما عقله الباطن فيفكر بأربعة ملايين خلية.
وهكذا يعيش الإنسان معركتين.. معركة مع نفسه و مع العالم المتغير المتوحش.. ولا يستطيع أن يصل إلي سر السعادة أبدا.
يحكى أن أحد التجار أرسل ابنه لكي يتعلم سر السعادة لدى أحكم رجل في العالم.. مشى الفتى أربعين يوماً حتى وصل إلى قصر جميل علي قمة جبل.. وفيه يسكن الحكيم الذي يسعى إليه.. وعندما وصل وجد في قصر الحكيم جمعاً كبيراً من الناس.. انتظر الشاب ساعتين حين يحين دوره.. انصت الحكيم بانتباه إلي الشاب ثم قال له: الوقت لا يتسع الآن وطلب منه أن يقوم بجولة داخل القصر و يعود لمقابلته بعد ساعتين.. و أضاف الحكيم و هو يقدم للفتى ملعقة صغيرة فيها نقطتين من الزيت: امسك بهذه الملعقة في يدك طوال جولتك وحاذر أن ينسكب منها الزيت.
أخذ الفتى يصعد سلالم القصر ويهبط مثبتا عينيه علي الملعقة.. ثم رجع لمقابلة الحكيم الذي سأله: هل رأيت السجاد الفارسي في غرفة الطعام؟.. الحديقة الجميلة؟.. و هل استوقفتك المجلدات الجميلة في مكتبتي؟.. ارتبك الفتى واعترف له بأنه لم ير شيئاً، فقد كان همه الأول ألا يسكب نقطتي الزيت من الملعقة.. فقال الحكيم: ارجع وتعرف علي معالم القصر.. فلا يمكنك أن تعتمد على شخص لا يعرف البيت الذي يسكن فيه.. عاد الفتى يتجول في القصر منتبهاً إلى الروائع الفنية المعلقة علي الجدران.. شاهد الحديقة والزهور الجميلة.. وعندما رجع إلي الحكيم قص عليه بالتفصيل ما رأى.. فسأله الحكيم: ولكن أين قطرتي الزيت اللتان عهدت بهما إليك؟.. نظر الفتى إلي الملعقة فلاحظ أنهما انسكبتا.. فقال له الحكيم:
تلك هي النصيحة التي أستطيع أن أسديها إليك سر السعادة هو أن ترى روائع الدنيا و تستمتع بها دون أن تسكب أبدا قطرتي الزيت.
فهم الفتى مغزى القصة فالسعادة هي حاصل ضرب التوازن بين الأشياء، و قطرتا الزيت هما الستر والصحة.. فهما التوليفة الناجحة ضد التعاسة.
يقول إدوارد دي بونو أفضل تعريف للتعاسة هو أنها تمثل الفجوة بين قدراتنا و توقعاتنا..
إننا نعيش في هذه الحياة بعقلية السنجاب.. فالسناجب تفتقر إلي القدرة على التنظيم رغم نشاطها و حيويتها.. فهي تقضي عمرها في قطف وتخزين ثمار البندق بكميات أكبر بكثير من قدر حاجتها.